خاطرة اليوم العاشر من رمضان وعنوانها: ذكاءُ فقيه
إنَّ الله قد شَرَعَ لنا صيامَ رمضان ~ كما تعلمون ~ لِحِكَمٍ كثيرة , ومنها تربيتنا على التَحَكُّمِ في الذات وعدم الانقياد للشهوات , كشهوة الطعام والشراب على سبيل المثال , وإذا كان هذا الأمر يبدو أمرًا طبيعيًّا وتحصيل حاصل لمقتضيات الإيمان والإسلام , فإنَّ المسألة ليست كذلك بالنسبة لغير المسلمين الذين نُعايشهم في بلاد الغرب , والذين يستغربون من سلوك المسلم في امتناعه عن الأكل والشرب نهارًا خلال شهرٍ كاملٍ .
فنَحمدُ الله على نِعْمَةِ الإسلامِ ~ وكفى بِها نِعمة ~ ونقول ما عَلَّمنا ربُّنا إيَّاهُ في قولِهِ تعالى: { الحمدُ لله الذي هدانا لِهذا وما كُنّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلاَ أن هدانا اللهُ, لقد جاءت رُسُلُ رَبِّنا بالحق }.
فبالتحكُّمِ في غرائزنا, نتجنَّبُ أن يصير حالُنا إلى حال هذا الصائم الذي أروي لكم قِصَّتَهُ للعبرةِ, وللترويح على النفسِ بشيء من الفكاهة والطرافة:
جاء رجلٌ إلى فقيهٍ , فقالَ : أفطرتُ في رمضان .
فقال له الفقيه: اقضِ يومًا مكانَهُ.
قال الرجلُ: قضيتُ, وأتَيتُ أهلي وقد وضعوا حَلوى , فَسَبِقَتْني يدي إليها فأكلتُ منها.
قال الفقيهُ: اقضِ يومًا مكانَهُ.
قال الرجلُ: قَضَيتُ, وأتيتُ أهلي وقد وضعوا هَريسَةً { قَلْبُ اللوز ِ, في تسمِيَّةِ الجزائريين }, فسبقتني يدي إليها, فأكلتُ منها.
فقال الفقيه : أرى ألاَّ تصومَ بَعْدَ ذَلِكَ إلاَّ ويَدَكَ مَغلولَةٌ إلى عُنُقِكَ .
إذا كان هذا الصائمُ المسكينُ قد عجز عن إمساك يَدِهِ أمام شهوةِ بطنِه, فكيفَ هُوَ حالُ من لم يملك لسانَه وبصرَهُ وسمعَهُ وسائِرَ جَوارٍحِهِ, عن الوقوعِ في ما يُفْسِدُ صومَهُ من حيثُ لا يدري ولا يشعر؟
نفعني الله وإيَّاكم بفحوى هذه القصَّةِ الطريفة , ووَفَّقَنا جميعًا إلى كل خير, وإلى تواصلٍ مُتَجَدِّدٍ في خاطرةٍ قادِمة , إن شاء الله .
خاطرة اليوم الحادي عشر من رمضان وعنوانها: فَقِهَ الأعرابِيُّ
لقد حَلَّ علينا رمضانُ هذا العام في فصل الصيف , الذي كان جوّهُ حارًا بدرجات متفاوتة حسب المناطق الجغرافية , مما يجعلُ البعضَ من عامةِ الناس يُكثِرون الشكوى لبعضهم البعض , من شِدَّةِ الجوعِ والعطشِ ومن طول اليوم وحَرِّهِ , مُتَناسينَ في ذلك أنَّ بقدر الجهدِ مع الإخلاص يكون الأجر والثواب .
فبالصوم تمتنعُ- أخي وأختي- عن كُلِّ المُفطِراتِ , بأمرٍ من الخالق الذي هو أعلَمُ بِمَنْ خَلَقَ , ولكن الله ما منعكَ إلاَّ لِيُعطِيَّكَ وما حَرَمَكَ إلاَّ ليَتَكَرَّمَ عليكَ , فيتحوَّلُ بذلك المنعُ إلى عينِ العطاء , فيهون التعبُ ويتعلّقُ القلبُ بما يُعِدُّهُ لهُ مولاهُ من فائضِ مَنِّهِ وكرمِهِ , ولذلك كان مما أوصى به رسول الله ~ صلّى الله عليه وسلّم ~ أحَدَ أصحابه قائلاً له : { صُمْ يومًا شديدَ الحَرِّ ليومِ النشور}.
فالمحرومُ هو من حُرِمَ الخيرَ في الدنيا والآخرة .
وإليكم قصَّةَ هذا الأعرابي , الذي لم يكن فقيهًا بالصوم فحسب , بل فَقِهَ كلَّ الأمور على حقيقتها :
خرج الحّجّاجُ ذاتَ يومٍ قائظٍ { أي شديد الحَرِّ } فأُحضِرَ لهُ الغذاء , فقالَ: أطلبوا من يتغذى معنا , فطلبوا , فلم يجدوا إلاّ أعرابيًا , فأتوا بِهِ , فدارَ بينهُ وبين الحجّاجِ هذا الحِوارُ :
الحجّاج : هَلُّمَّ أيها الأعرابيُّ لنتناولَ طعامَ الغذاء
الأعرابي : قد دعاني من هو أكرَمُ منكَ فأجَبتُهُ
الحجّاج : من هُوَ ؟
الأعرابي : الله تبارك وتعالى دعاني إلى الصيام , فأنا صائمٌ
الحجّاج : تصومُ في مِثلِ هذا اليومِ على حرِّهِ ؟
الأعرابي : صمتُ ليومٍ أشدّ منهُ حرًّا
الحجّاج : أفطِر اليومَ وصُمْ غدًا
الأعرابي : أوَيَضْمَنُ الأميرُ أن أعيشَ إلى الغَد ؟
الحجّاج : ليسَ ذلِكَ إلَيَّ , فَعِلمُ ذلكَ عِندَ الله
الأعرابي : فكيفَ تسألني عاجِلاً بِآجِلٍ ليسَ إليهِ من سبيل
الحجّاج : إنَّهُ طعامٌ طيِّبٌ
الأعرابي : والله ما طيَّبَهُ خبّاَزُكَ وطبَّاخُكَ , ولكن طيَّبَتْهُ العافِيَةُ
الحجّاج : بالله ما رأيتُ مثلَ هذا... جزاكَ الله خيرًا أيُّها الأعرابي , وأمَرَ لَهُ بجائِزة .
إخوتي وأخواتي : :كان هذا حالُ الأعرابي في صومِ التَطوُعِ , فكيفَ هو حالنا نحن مع صومِ الفريضة ؟ هل بقيَ لنا عُذرٌ لنتَشَكَّى ونتأفَّفَ في هذا الشهر الكريم الذي هو مِنْحَةٌ لنا , لاَ مِحْنَة .
ملاحظة : القصّة مليئة بالعبر والدروس التي لم أرد التعليق عليها , لتركيزي على الصيام فحسب , ولكن أبقى متواصلاً ~ إن شاء الله ~ مع من يريد التبادلَ حول بقية الدروس المستخلصة منها.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
أخوكم المحب لكم