استرعى انتباهها صوت بكاء الطفلة الصغيرة حنين......... فمضت إليها تستطلع الأمر.
كانت حنين جالسة القرفصاء، منكمشة على نفسها، في إحدى زوايا الممر، تجهش بالبكاء.....
مالك يا حبيبتي؟؟ سألتها باهتمام وإشفاق. ولكن الطفلة التي لم تتجاوز الثالثة من عمرها أخفت وجهها بين ذراعيها، مستمرة في النحيب، وهي تهز رأسها يمنة ويسرة، كأنما لتعبر عن رفضها لشيء ما....
أخذت تمسح شعرها بيد حانية، وقد ازدادت دهشتها.... وأقبلت أم حنين، وقالت لابنة خالتها مستنجدة، طالبة الدعم لموقفها: أرأيت كم هي عنيدة؟ إن حنين ترفض الدخول إلى صالة الجلوس....
كان اليوم هو الخميس، يوم الاجتماع العائلي الأسبوعي الكبير، في بيت الخالة الكبرى، حيث يجتمع الأبناء والبنات وأزواجهم، والأحفاد والحفيدات، ولما كانت في زيارة قصيرة لبلدهم، فقد كانت هذه فرصتها لتجتمع مع هذه العائلة بأجيالها الثلاثة. وكانت لا تفتأ ترى من عاداتهم وتصرفاتهم ما يثير دهشتها واستغرابها، ربما لأنها لم تألف مثل هذه العادات في بلدها أو بيتها.
سألت ابنةَ خالتها: ماذا دهى ابنتك؟ ولماذا ترفض الدخول إلى الصالة حيث الجميع؟ وما الذي يجعلها منزوية ومنطوية وباكية بهذا الشكل؟
وبدأت الأم تشرح الموقف بضجر وملل الأم التي استنفدت مع ابنتها العنيدة كل الحيل: لقد انسكب العصير على ملابسها فاتسخت، فأخذتها لأغسلها، وقد نسيت اليوم –وعلى غير عادتي- أن أحضر لها ملابس إضافية، وسألت كل أخواتي، فلم أجد ملابس مناسبة لها سوى هذا "التي شيرت" الواسع، فجعلتها ترتديه، انظري....
وشدت الأم ابنتها الباكية لتقف وتري ابنة خالتها هذا "التي شيرت" المستعار. كان كبيراً فعلاً، ويصل في طوله إلى نصف فخذ الطفلة.
قالت الأم معتذرة وقد بدأت تلمح في عيني ابنة خالتها الدهشة والاستنكار: ولم أجد لها تنورة ولا بنطالاً، فقلت لها هذا التي شيرت كأنه فستان قصير، وبإمكانك أن تبقي فيه إلى أن تجف ملابسك، ولكنها غير مقتنعة، وترفض الدخول أمام الآخرين به. ..... فهلا كلمتها وأقنعتها أنه لطيف ومناسب. وغمزت لها بطرف عينها مستعطفة..... ثم أضافت: ثم إنها لا زالت صغيرة.
تمتمت الأخرى: سبحان الله!!....
ماذا قلت؟؟
قلت: سبحان الله، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قالت: ماذا تقصدين؟
قالت: كل مولود يولد على الفطرة.
إن الستر والاحتشام فطرة في الإنسان، وأنت الآن بيديك تقتلين هذه الفطرة في ابنتك، وغداً ستدور الأيام، وتتمنين لو أنك لم تفعلي...
ابتسمت الأم ابتسامة خجلى....
ولكن ترى هل اقتنعت بهذا الكلام؟ أم اعتبرته موقفا آخر متزمتاً لهذه القريبة المتشددة التي تطل عليهم بين حين وآخر بظلها الثقيل، وتشعرهم بمجرد وجودها، وحتى دون أن تتكلم، أن كل تصرفاتهم وعاداتهم غلط في غلط.
ومرت الأيام والسنون متلاحقة.... كم هو سريع قطار العمر حين يجري!!.. ومن كنا نحسبهم صغاراً ما يلبثون أن يصبحوا شباناً وشاباتٍ ملء السمع والبصر...
واجتمعت بالعائلة الكريمة ثانية في إحدى حفلات الزفاف.... كانت حنين قد غدت فتاة شابة جميلة، في الثامنة عشر من عمرها... وأخذت تراقبها وهي تغدو وتروح بثوبها الضيق المكشوف، مزهوة بجمالها وشبابها وفتنتها.... ولم تدهش أبداً –وبكل أسف- حين دخل العريس ووالده، وإخوة العروس ووالدها ليباركوا للعروسين ويهنئوهما في ليلة عمرهما هذه –على عادة أهل تلك البلد- وسارعت النساء للالتفاف بعباءاتهن، ولكن حنين لم تحرك ساكناً، بل استمرت تخطر بثوبها الجذاب العاري،وتتمايل راقصة على أنغام الموسيقا....
والتقت عيناها بعيني ابنة خالتها أم حنين، التي قالت لها بعبارة موجزة، ونبرة خجول: ادعي لحنين، فإنها ترفض الحجاب رفضاً تاماً....هداها الله!!